بالصدفة البحتة، كان علينا أن نشاهد تذكيراً بالذكرى الثلاثين لتدشين السد الأكبر في بلدنا، عبر قناة روسيا اليوم، التي قدمت تقريراً طويلاً عن مراحل بناء السد، من 1968 حتى 1978، ومن ثم عبر احتفال المركز الثقافي الروسي في دمشق وتكريمه للمهندسين السوفييت والروس الذين شاركوا ببناء سد الفرات، وحتى وكالة نوفوستي للأنباء التي كتبت “بعد مرور 30 عاما على تشييد سد الفرات يبقى رمزا للصداقة السورية الروسية، وفي هذه البقعة من الأرض السورية اختارت الصداقة السورية الروسية خطّ عنوانها الأكبر، سد الفرات”.
لا أعرف لماذا مرت الذكرى عابرة هنا، ربما لأن حكاية هذا المكان، بقيت أسيرة لكتب التربية القومية الاشتراكية، التي تروي حكايته كأحد إنجازات “سورية الحديثة”، وربما ضاعت الحكاية في زحمة حكايات الثورة التي سمي السد باسمها قبل أن ينحاز إلى اسمه التاريخي، اسم النهر الذي قبل به شريكاً في المياه والأرض والحضارة… “نهر الفرات العظيم” كما يرد في نصوص الأكاديين الذين أقاموا أعظم وأقدم حضارة في بلاد الرافدين، الفرات بالضم ثم التخفيف، وآخره تاء مثناة من فوق، الفرات في أصل كلام العرب أعذب المياه…
في آذار 1978، يكون قد مر ثلاثون عاماً على تشغيل آخر مجموعة توليد وانتهاء الأعمال الرئيسية في محطة سد الفرات الذي غير وجه منطقة الجزيرة السورية، ربما للأبد، كما غير من تاريخ سورية، ورسم ملامح زمن… انتظره كثيرون… ولما يأت بعد.
نعم، جاء السد في مرحلة الشعارات الكبرى، والأحلام الكبرى، وأيام المعسكرات الشرقية والغربية، فكان إيذاناً بانضواء سورية للمعسكر الذي اختارته أو اختارها… لا فرق.
كان السد عبارة عن ثورة اقتصادية بكل ما تعنيه الكلمة، لكنها ثورة لا تنته بشعارات الانتصار على الامبريالية، وتحقيق الاشتراكية، وبناء الاقتصاد الوطني، بل ثورة بالشروع في العمل، بتأمين الكهرباء، واستصلاح الأراضي، وتحسين حياة الناس… فتحية، أما بعد..
أكلت ثورة سد الفرات أبناءها، واليوم يحتاج السد حملة إصلاح، سواء لجسمه الذي أظهر بعض التشققات، أو لمحطاته، التي تعتبر الأقدم في العالم والتي مازالت في الخدمة، فيما لا يزال الفلاحون الذين أخذ السد وبحيرته أرضهم، ينتظرون التعويض منذ ثلاثين عاماً، وما يزال العمال الذين استشهد بعضهم في أعمال الحفر والبناء ينتظرون التكريم….
أُنجز مشروع السد على مراحل، من ارتفاع الأبنية الضخمة وجسم السد والمنشآت حتى إنشاء محطات التحويل والمحطة الكهرمائية وصولاً إلى الأقسام الثابتة من المولدات الكهربائية ومجموعات التوليد الكهرمائية، ومروراً بأكثر اللحظات صعوبة عندما فتحت قناة “السلحبية العليا” أمام مياه خزان السد وحصل انكسار هائل في أحد مقاطع القناة فابتلعت الأرض مئات الأمتار من المياه، وعندما انكسر سد الحماية وتحول مجرى النهر، وغمر مئات الهكتارات من الأراضي.
يبلغ طول السد نحو4500 متر وعرضه من القاعدة 512 مترا وعرضه من القمة 19 مترا وارتفاعه 60 مترا عند المنسوب ويرتفع عن سطح البحر نحو308 أمتار ويتسع جسم السد حوالي 41 مليون متر مكعب من المياه ويحجز خلفه بحيرة الأسد وطولها حوالي 80 كيلو مترا وعرضها الوسطى 8 كيلو مترات وسعتها التخزينية حوالي 1ر14 مليار متر مكعب من المياه العذبة، ويروي مساحات واسعة من الأراضي تبلغ مساحتها أكثر من 640 ألف هكتار.
ويولد سد الفرات 880 ميغا واط ساعي عبر مجموعاته الثماني التي تبلغ استطاعة المجموعة الواحدة منها نحو110 ميغا واط وتعتبر محطة سد الفرات أول محطة كهرمائية في سورية، وقد بلغت كمية الطاقة الكهربائية المولدة من محطة سد الفرات الكهرمائية منذ وضعه بالاستثمار الفعلي ولغاية نهاية العام الماضي حوالي 67 مليارا و594 مليون كيلو واط ساعي، وكلف السد حوالي 150مليون روبلا بقيت ديناً “للأصدقاء السوفييت”…
كانت سورية شهدت السنة الماضي أزمة في التيار الكهربائي وانقطاعاته العشوائية الأمر الذي عزاه وزير الكهرباء إلى ارتفاع دراجات الحرارة بشكل رئيسي، فيما عزاه رئيس الحكومة إلى “الضغوط الغربية”.
لكن قرب الفرات، كانت هناك حكاية أخرى، فمحطتي توليد الكهرباء في سد الفرات احترقتا قبل أكثر من عام ولم تستبدلا، بسبب خلاف بين مؤسسة سد الفرات ووزارة الكهرباء حول الجهة المسؤولة عن استبدالهما وسط التحضيرات لانتقال تبعية محطة التوليد من مؤسسة سد الفرات إلى وزارة الكهرباء، والذي كان مقرراً من عام 1993، لكن هذا لم يحدث ومازالت تابعة لوزارة الري حتى الآن.
ففي شهر حزيران 2006، احترقت محولة جديدة كانت ما تزال في طور التجربة وأدى هذا إلى احتراق محولة احتياطية مجاورة لها أيضا، وقدرت الخسائر حينها بـ150 مليون ليرة سورية وخلصت هيئة الرقابة والتفتيش إلى أن الحادث نتج عن “القضاء والقدر”.
وكالعادة، جاء حل النصف ساعة الأخيرة، فتم إعادة محولة قديمة للخدمة بعد أن كانت في مرحلة التنسيق، واستعاضوا عن المحولة الاحتياطية بواحدة منسقة من جيل الستينات كانت في طور الإتلاف، ومازالت “المشكلة على كف عفريت” وتحت رحمة “القضاء والقدر”، علماً أن شبكة سد الفرات تؤمن التوازن في شبكة الكهرباء السورية بوقت الذروة.
شارك ببناء السد حوالي 1500 عامل ومهندس سوري، وهم بالمناسبة أقل من عدد العمال اليوم في المؤسسات التابعة لسد الفرات، وسكن هؤلاء في مدينة الطبقة (الثورة)، أول وآخر مدينة محدثة في سورية، صنعت لهم مجتمعاً جديداً في مدينة جديدة، له لهجته، و مفرداته الخاصة.
لكن مقابل مدينة الطبقة الصاعدة على الضفة الغربية لنهر الفرات، كان هناك مكان أخرى يصارع للحياة، إنها قرية جعبر، على الضفة المقابلة، والتي نظرت بدهشة إلى ما يجري، غير دارية بما يخبئه القدر، حتى حانت لحظة الغمر العظيم، كي تصدق بأن الغمر حقيقة واقعة، فقد تحول مجرى النهر واستطاع السد ترويض النهر، وأثناء ذلك غمر قرية جعبر، وغرقت مئذنتي (مسكنة) و(المريبط) الأثريتين اللتين تقرر إنقاذهما وتم نقلهما حجراً حجراً إلىمكان مرتفع، واليوم لم يتبق من القرية سوى قلعتها الأثرية التي تضم ما يزيد عن خمسة وثلاثين برجاً، والتي أصبحت فوق جزيرة ضمن بحيرة سد الفرات.
كان السد رحيماً بجعبر فأبقى لها قلعتها، لكن ثمانون قرية أخرى، غمرت، ومحيت عن وجه الأرض، ورحل عنها أهلها ذاعنين لقرارات الحكومة التي وعدتهم بالرخاء والتعويض بأرض جديدة… ليبقوا منذ ذلك الحين بلا تعويض في السكن ولا لمصدر رزقهم ولا لأرضهم.
ففلاحو منطقة الغمر الذين ألِفوا العيش في أحضان حوض الفرات المعطاء، وانتظروا سنوات وسنوات يحلمون بالجنات التي سوف ينعمون بها بعد بناء السد، لم يخطر على بال أولئك الفلاحين يوماً أن سد الفرات سيكون سبباً في تشريدهم من الأراضي التي نشؤوا بها، ولم يكونوا يعلمون أن بناءه – بدلاً من أن يدرأ عنهم خطر الفيضانات كما كان متوقعاً- يؤدي بهم إلى العيش في خيام متنقلة تحت رحمة الرعود والأمطار.
ثمانون قرية، عوض جزء من أصحابها من أراضي أملاك الدولة وعدد قراهم يتجاوز (42) قرية وبقيت (29) قرية لم يعوض أصحابها ولم تنفذ بحقها أحكام المرسوم الرئاسي رقم/577/ تاريخ 1981 وخرجت عدة قرارات ومراسيم ومحاضر لجان تؤكد على تعويضهم وحقهم في التعويض العيني أي أرض بدل أرض.
بل أن قرار القيادة القطرية رقم 83 تاريخ 2000 أعطى العاملين في مزارع الدولة أراضي واستفاد العامل الذي لديه عمل ستة أشهر, أما الفلاح الذي يملك أرضه منذ قبل 1900 لم يعتمد اسمه في عمليات التوزيع…
قرية رسم العبد مسطاحة وقرية خربة برغوث وقرية جب خميس، قرية عين الجاموس قرية العين البيضاء، البابيري، خان الشعر، عارودة، شعيب، مسكنة.. هذه القرى وغيرها لا تزال لم تحصل على تعويضاتها بدلا من أرضها التي غمرت بمياه بحيرة الأسد منذ ثلاثين عاما وحتى الآن لم تخدم بالخدمات الضرورية للحياة، مرة بحجة التشجير الحراجي ومرة بحجة حرم البحيرة الذي ما زال مثار جدل حتى اللحظة أيضا.
القرى المشتبه بانتمائها إلى حرم البحيرة أو الغمر، صار حقها شبهة، وما زالت محرومة من كل شيء: من المدارس والطرق والصرف الصحي ومياه الشرب والكهرباء والهاتف وتعويض الأراضي، رغم أن آلاف الهكتارات مازالت غير موزعة في مشاريع مسكنة غرب، ومسكنة شرق، ومنشأة الأسد، فإن المعنيين في مؤسسة استصلاح الأراضي وفي لجان توزيع الأراضي لم يتذكروا هؤلاء الفلاحين، حتى إن بعضهم فقد الأمل في الحصول على تعويض، وملّ من كثرة المطالبة دون استجابة.
أكثر من ذلك، فقد تلاعب الفاسدون، في مؤسسة استصلاح الأراضي، ومازالوا يتلاعبون، بآلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة، فصاروا يستثمرونها، أو يسلمونها لمن لا حق له فيها، أو “يبيعونها” لمن منحه القانون الحق في استثمارها، وهذا حسب لجنة كلفها مجلس الشعب، بالبحث بقضية تعويض الأراضي واستبدالها السنة الماضية، وخرجت بنتائج “مخزية”.
في عام 1979 كتب الدكتور عبد السلام العجيلي روايته المغمورون (إلى الذين على رؤوسهم المغمورة بمياه سد الفرات بنيت أمجاد وازدهرت حظوظ.. إلى المغمورين..؟)، وفي العام الماضي كتب تركي محمد رمضان روايته (برج لينا) عن العمال الذين استشهدوا لبناء حلم سورية، وكذلك، رواية (التحول الكبير) لمحمد إبراهيم العلي، ورواية (آن له أن ينصاع ) لفارس زرزور… عل الكلمات تنصف أهل السد الحقيقيين… أصحاب الحكاية.