وقف المحاضر أمام المتدرِّبين و قال: حسناً لقد انتهينا من الكلام النظري الممل و حان الوقت لتقديم مثال عملي ممتع فما هو رأيكم؟... و دونَ أن ينتظر الإجابة المعروفة نزل تحت طاولته و أخرج دلواً فارغاً و دلواً آخر ممتلئاً إلى حافته بأحجارٍ كبيرة يبلغ الواحد منها حجم البرتقالة تقريباً....
وضع المحاضر الدلوين على طاولته ثم بدأ يتناول الأحجار الكبيرة و ينقلها إلى الدلو الفارغ حتى انتهت...
ما قولكم الآن يا سادة هل امتلأ الدلو؟... من الواضح انه امتلأ يا أستاذ!
لا يا سادة... ما زال فيه متسعٌ كبير! و تناول الأستاذ من تحت الطاولة دلواً آخر فيه حصياتٌ صغيرة بحجم الفول.
و بدأ يصبُّ منها فوق الحجارة الكبيرة و يرجُّ الدلو حتى امتلأ الدلو مجدداً بالحصيات الصغيرة إلى حافته تماماً.
و الآن تظنونه امتلأ؟ لا بالتأكيد! و نزل المعلِّم تحت طاولته و تناول دلواً مليئاً بالرمل الناعم و بدأ يصبُّ الرمل فوق الحجارة الكبيرة و الحصى و يرج الدلو و يطرقه بقبضته حتى امتلأ تماماً و أخذ الرمل المصبوب يتدفق إلى الخارج... حسناً يكفي هذا لقد اقتنعتُ أنا قبلكم بأنه ممتلئٌ و لا يقبلُ ذرةً إضافية.
أيها السادة انتهى الجزء الأول من لعبتنا و نصلُ الآن إلى الجزء التالي!
لدي هنا ثلاثة دلاء تحتوي كثيراً من الرمل و الحصى، وكميةً من الأحجار الكبيرة تطابق الكمية التي وضعناها في الدلو الذي ملأته بنفسي، و أريد الآن متطوعاً منكم ليحاول ملأ هذا الدلو الفارغ بها و لكن بترتيبٍ مختلفٍ عن الترتيب الذي اتبعته! و الشرط الوحيد المطلوب هو أن يتسع الدلو لكل الأحجار الكبيرة أو لمعظمها!
تفضل يا عزيزي هذه هي المواد و هذا الدلو الفارغ و ابدأ عملك الآن!
بدأ المتدرب يصب الرمل قليلاً قليلاً و بينما هو مستغرقٌ في صبِّ الرمل صاح الحاضرون توقف! يكفي يكفي! ألا تفكر أين ستضع الحجارة و الحصى؟! توقف المتدرب و صبَّ قبضةً أو اثنتين من الحصى ثم وضع اثنين من الأحجار الكبيرة و أخذ يطرق الدلو و يصفعه و يدقه على الطاولة و يرجه رجاً عنيفاً حتى تغوص الأحجار في الرمل و لكن دون فائدة...
تركه المحاضر يحاول و يحاول و عندما بدا عليه الإنهاك و العجز تقدم المحاضر لينقذه من المأزق... شكراً يا سيدي! هذا يا يكفي، بإمكانك أن تعودَ إلى مقعدك!... توقف أرجوك! نعم أنا طلبتُ منك ملأ الدلو و لكن دون أن تحطم الطاولة أو تؤذي نفسك!... و هكذا عاد المتدرب مهزوماً محرجاً...
امتحان الوقت إجباري على كل مخلوق...
ركِّز على الأسئلة المهمة إذا أردت النجاح حقاً!
أيها السادة إذا طلبتُ منكم متطوعاً جديداً لملء هذا الدلو فبإمكانه أن يعتذر و لن يكلفه ذلك شيئاً!...
و لكن أخبروني بالله عليكم من يستطيع الاعتذار و الإحجام عن واجبات الحياة دونَ أن يدفع الثمن غالياً؟
إن وقتنا وأعمارنا هي بمثابة هذا الدلو الفارغ. و أما الرمل و الحصى و الأحجار فهيَ الأعمال و الواجبات المتفاوتة في حجمها وأهميتها و قيمتها!... و الآن من منكم يستطيع أن يخبرنا بالمغزى من هذه اللعبة؟
رفع أحد المتدربين صوته و قال بفخر: مهما كانت جداول أعمالك ممتلئة فإن بإمكانك دائماً أن تجد فراغاً تنجزُ فيه المزيد من الأعمال!...
ابتسم الأستاذ و قال: لا يا سيدي أشك في ذلك! فنحن لسنا بخالدين. و إذا افترضنا أن مشاريع الإنسان و خططه كاملةٌ لا نقصَ فيها، فإننا لا نستطيع أن ننسى أن طاقته على التنفيذ محدودة! و أما مقصدي من لعبة الوقت هذه فهو التالي: أجل يمكنك ملأ الدلو كلِّه بالرمل أو بالحصى و لكن هل الرمل و الحصى هي المطلب الأهم لملأ دلوك؟
ثمَّ ماذا تغني عنك معرفتك إذا كنت تعرف قيمة الأحجار الكبيرة و لكنك مع ذلك خضعت لإغراء أو إكراه صبِّ الرمل و الحصى الصغيرة فبدأت بها و امتلأ الدلو إلى حافته و أنت لم تبدأ بعدُ بملء الأحجار الكبيرة؟
عندما حاول زميلكم ملء الدلو مبتدئاً بالرمل و الحصى فإنه لم يجد مكاناً للأحجار الكبيرة في النهاية مع أنه يرى الدلو أمامه و يستطيعُ تقدير سعته... و الآن كم ستكون الكارثة هائلةً إذا انزلقنا إلى ملءِ حياتنا و أوقات مشاريعنا بالتوافه السهلة المرغوبة أو المهمات الفرعية الفورية النتيجة و نحنُ لا نعرف متى ينتهي أجلنا فتنقطع الآمال المؤجَّلة، و لا ندري متى تتغير ظروف حياتنا و عملنا فتتبخر الأحلام المسوَّفة!
إذا لم تبدأ بملأ الأحجار الكبيرة في دلوك أولاً فلن تستطيع وضعها فيه أبداً! و إذا لم تركِّز على المهمات الأساسية بدايةً فلن تستطيع أداءها حتماً و لو عشتَ آلاف السنين... لأنَّ ما تقذفه إليك الحياة من مشاغل جانبية أو ملاهٍ ممتعة أو مصاعب قاهرة يصدرُ عن نبعٍ دائم التدفق يمكنه أن يملأ عمرك كله و أعمارَ أجيالٍ و شعوبٍ بأسرها!
استعمل غربال النجاح المستقبلي الدائم لتمييز المطالب الجديرة بوقتك و جهدك
أعزاءنا القراء: قد يكونُ أحدنا طالباً في مدرسته أو مديراً في مؤسسته أو عاملاً في مصنعه أو ربة منزلٍ في بيتها و بين أبنائها و لكننا جميعاً لا نستغني عن الغربال لتحقيق النجاح المؤكَّد في كل تلك المواقع!
احمل في ذهنك غربالاً و اضبط قياس شبكته على قياس قيمك و واجباتك الرئيسية اللازمة لتأسيس النجاح في موقعك و ضمنَ ظروفك الخاصة. و عندما تهاجمك الحياة أو ظروف العمل بفيضانها الهائل من الملاهي أو المشاغل أو الواجبات المفاجئة فلا تجزع و لا تحاول التصدي لها جميعاً بل تريَّث و مرِّرها من الغربال بكل بساطة!...
انظر في المهمات الكبيرة المتبقية فقط فهي التي تكفلُ لك بناء النجاح في المستقبل و زراعة عمرك بالمنجزات المعمِّرة، و لا تفكر في أي مطلبٍ صغير يمرُّ من شبكة الغربال مهما بدا إنجازه سهلاً أو مغرياً أو ممتعاً و مهما بدا الإعراضُ عنه أو تأجيله محرجاً لك أو للآخرين! قل لا و لا تقلق فأنت على حق و نور! أجِّله أو ارفضه و أنت الناجح في النهاية بالتأكيد... و هل هناكَ أنجح ممن يعرف بماذا يملأ عمره و كيف يزرعه!
افعل ما ينبغي فعله مهما كان صعباً و لا تنصرف إلى ما يحلو أو يتاحُ فعله لأن ثمرة الجهد هي الأحلى و هي الأوفر، و لأن شرف المحاولة وحده هو أغلى و أرقى من أي نجاحٍ سرابيِّ رخيص... أجل! في البداية يبدو عمل المزارع في الأرض الجديدة جهداً عقيماً بعيدَ الغاية، قد يصل إليه و قد لا يصل! و يبدو التقاط الثمار المتساقطة أو ترصُّدُ الفرص العابرة عملاً ذكياً مربحاً و مريحاً. و لكن انظر إلى النهاية!...
انظر إلى وفرة ثمار الأشجار و جودتها و لاحظ كيف يرفع رأسه من يقطف ثمار أشجاره قطفاً و ينتقيها انتقاءً و كيف يبقى مرغماً على الانحناء إلى الأرض من يلتقطها التقاطاً سهلاً سريعاً...
تعلم كيف تحضر كوكتيل اللعب و الجد و تناوله كلَّ يوم!
انتهى المدرب من بيان العبرة و ضجت القاعة بالتصفيق... و لكنه ابتسم و قال انتظروا يا سادة لم ننته بعد!
ثم أخرج من تحت الطاولة زجاجة عصيرٍ كبيرة و سكبها كلها فوق الدلو الممتلئ بالأحجار و الرمل دون أن تفيضَ منها قطرةٌ واحدة. ثم هتف مسروراً : الآن امتلأ الدلو حقاً! و الآن رأينا أن البدء بالمهمات الكبيرة هو الذي يتيح لك أن تقوم بين الحين و الآخر بكل النشاطات اللذيذة التي ترغبُ فيها و أن تستمتع بها حقاً دون أيِّ خوفٍ أو قلق!
يا سادة! لو أنني حاولتُ ملأ الدلو بالعصير أولاً ثم صببتُ فوقه الرمل و الحصى فإن ذلك لا يعني فقط العجز عن وضع الأحجار الكبيرة في النهاية، بل يعني أيضاً أن كثيراً من هذا الشراب اللذيذ سيفيض خارج الدلو و تصبح حلاوته خيالاً فانياً لا سبيلَ إلى استعادته.
أجل! حقق رغباتك لتعيش حياتك... و لكن إياكَ أن تعيش حياتك لتحقيق رغباتك لأنك إن فعلت خسرتهما معاً
خلاصة استراتيجية من مدرسة النبوة
عزيزي القارئ إن محورَ القصة السابقة هو من أشهر الأمثلة التدريبية العالمية و لا نعرف بالضبط من هو المبتكر الحقيقي لتلك الأمثولة الرائعة و من أي مدرسةٍ تخرَّج.
و إن لقيت هذه الصورة في نفسك قبولاً و إعجاباً فاسمع إذاً قول أحد الخريجين من مدرسة رسول الله صلى الله عليه و سلم و من ذريته الشريفة قبل ثلاثة عشر قرناً و إياك أن تعجب من نبع الحكمة هذا فقد عرفتَ من أيِّ غمامٍ سماوي يستمد ماءه! قال الحسن بن العباس رضي الله عنه:
اعلم أن رأيك لا يسع كلَّ شيء ففرَّ عنه للمهمِّ من أمورك
و أنَّ مالك لا يُغني الناس كلَّهم، فاخصص به أهل الحق
و أنَّ كرامتك لا تطيق العامَّةَ فتوخَّ بها أهل الفضل
و أنَّ ليلك و نهارك لا يستوعبان حوائجك فأحسن قسمتهما بين عملك و راحتك
أعزائنا القراء: أليست هذه الكلماتُ من أروع و أوضح المنارات في إدارة الذات و العمل و الحياة!
اللهم صلَّ على سيدنا محمد معلم الحكمة الأول و على آله و صحبه و تابعيهم و من اهتدى بهديهم أجمعين.