كنت يومها حديث التخرج ، وكعادة الأساتذة الكبار في استغلال أمثالنا جلست في مكتب الدكتور رمزي أنسخ بعض الأوراق لمؤتمر زراعة القلب الذي يرتب لحضوره . وفي المكتب زكي بك أحد المرضى الدائمي الزيارة لمستشفانا .. رجل أحرق من عمره خمسين ربيعا ، تبدو النعمة من وفرتها كأنها تنسكب منه ، ممتلئ الوجه بين أصبعيه سيجارا لو اشتراه أحد زملائنا لظل عشر سنوات يدفع ثمنه ، كنت أسمعه يقول للدكتور رمزي إن نصحه بترك الخمور والتدخين وسهراته التي يحرص عليها : أنا ادفع لك ما يكفي لأن أحيا كما أشاء .. وكأنه يشتري منه الحياة ...
في الفترة الأخيرة أعلن قلبه اليأس من الحياة وقرر تركه منفردا ، كان يعاني من قائمة طويلة من الأمراض مما جعل قرار الدكتور رمزي بضرورة نقل قلب لهذا الشخص حتمية ، من وجهة النظر الطبية ، و لاعتبارات كثيرة أخرى أهمها ما ستفعله عملية كهذه باسم المستشفى الذي سيرتفع لاشك ، وبما سيدخل خزانتها ويعود علينا نحن الغلابة أطباء أول السلم كما يقولون . ثم رفع المشقة عن هذا الرجل الذي يصر على الاستمرار في الحياة كما يريد .
سمعته يخاطب سكرتيره في الهاتف ويقول له : أريد رجلا يعطيني قلبه وأدفع له ما يريد .
صرخ فيه الدكتور رمزي : هوّ قلب حنفية !؟ في قلب بيتنقل من راجل حي ... المطلوب رجل حديث الوفاة ..ثم صمت لحظة و قال .. ولحسن الحظ توفي من دقائق شاب كان قد وصل بالأمس في إصابة بالغة .. لكني لا أعرف كيف نطلب من والده طلبا كهذا .
قال : أنا على استعداد لدفع أي قيمة يريدها ..
كيف يظن أن بإمكان رجل أن يهبه قلب ولده لأنه يستطيع أن يدفع له ، وهل توهب القلوب إلا في الحب .. هناك توهب اسما وتوهب دما .. توهب ويكون في الهبة السعادة ..
كنت أعلم أن الدكتور رمزي احرص على هذه الجراحة من الرجل ، وأن باستطاعته الحصول على موافقة والد المصاب .. كان ذلك الرجل الذي يكفي أن يرى في خياله أمرا ليصبح تحقيقه حتما ، موقن تماما أن باستطاعته الحصول على ما يريد .. لم اسمعه مرة يقول ( لا أستطيع ) دوما يقول سأفعل ... حتى لو سئل عن أمر لا يعرفه فجوابه لا يكون ( لا أعرف ) وإنما يكون ( سأبحث في الأمر وأخبرك بما تريد ) ... وهو مع ذلك لا يسلك في الأمور مسلكا معوجا ولا يحبه .
راقبته أثناء العملية فقد سمح لي بحضورها لأنه كما يقول يرى فيّ صورته الصغيرة ، كان مبدعا بحق ..كنت كعادتي وأنا أقف معه أسأل نفسي .. كيف لهذه اليد التي شاخ جلدها مثل هذه المهارة .. يخطئ من يظن أن في أيد الجراحين قسوة .. مثل هذه الأيد التي لا تتعامل إلا مع أنسجة بلغ من رقتها أن حَوَت الحياة في أحشائها .. لا ينبغي إلا أن تكون أرق يد .. كانت يده كذلك .. مرنة كأنها يد غانية ألفت الرقص منذ شبت .. رقيقة كأنها يد أمّ على خد أول أبنائها ساعة تراه .. دقيقة كأنها يد عازف لم يألف أبدا أن تكون منه نغمة نشازا ...
ثم ..
هذا القلب الهامد الذي كان منذ لحظات قلب شاب يبدأ الحياة قد استقر في صدر كهل يكتب أسطره الأخيرة فيها .. قد بدأ يرفرف كأنه طائر على ريشه بلل بعد ان تم تحفيزه للعمل بعد فترة سكون هي الفرق بين هاتين الحياتين ....
في المساء كنت أقلب أوراقا لهذا الفتى نسي أهله من فجيعتهم تسلمها فوجدت فيها مفكرة صغيرة لم أحاول أن أقرأ منها شيئا لكن عيني لمحت هذه العبارة :
( مها .. إن مت . سيبقى قلبي حياً بحبك ..)
وقد مات .. وبقى قلبه حيا ..