عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" متفق عليه. يدل هذا الحديث بمنطوقه على أن من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وبمفهومه على أن من يرحم الناس يرحمه الله،
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء". فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله. فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى : {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله.
والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم. والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان: النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم. والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك.
ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك: من البغضاء، والعداوات، والتدابر.فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل. وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم.
وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته. ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد: "ما هذا يا رسول الله؟" فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال: "هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" وقال عند موت ابنه إبراهيم: "القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبلون أولادهم الصغار، فقال ذلك الأعرابي: إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أو أملك لك شيئاً أن نزع الله من قلبك الرحمة؟". ومن الرحمة: رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش. فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة. وضدها:
تعذيب المرأة التي ربطت الهرة، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت. ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها. ومن أساء إليها: عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها. فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب من أبواب رحمة الله، ونحنوا بها على جميع خلق الله، وأن يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته، إنه جواد كريم