أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسـداد ثغـر
كثيراً ما يتم ترديد هذا البيت حتى أنه ذهب مذهب أمثال العرب المعمرة أو السرمدية إذا جاز التعبير
فما هي حكاية هذا البيت ومن هو قائله ؟؟؟
المراجع :
الأغاني للأصفهاني
المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين الأبشيهي
الشرق الأوسط | 10 يناير 2002 أقنعة وازدواجية معايير ( محيي الدين اللاذقاني )
القائل هو العرجي .... وسمي بذلك لأنه كان يسكن قرية (العرج) بنواحي الطائف فنسب إليها، وعاش وتوفي بمكة، كان من الأدباء الظرفاء الأسخياء، وكان ينصب القدور في الليل لإطعام الطارقين، وكان من الفرسان المعدودين، صحب مسلمة بن عبد الملك في وقائعه بأرض الروم، وأبلى معه بلاء حسنا.... العرجي هو حفيد ثالث الخلفاء الراشدين !!!
هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قال العرجي هذا البيت وهو مطلع قصيدة من بضع ابيات وهو في السجن عندما فقد الأمل في فك أسره بعد أن مضى عليه تسع سنوات في سجنه كان في البداية لا مبالي ويتوقع ان الأيام القادمة ستنعم عليه بالحرية فهو من الأعيان ومن عائلة لها مجدها وحسبها ونسبها فكانت الفكاهة والنوادر ملازمة له رغم التعذيب الشديد والضرب بالسياط ولم يتوقع ابداً ان سجنه سيطول ولم يكن يعلم أنه سوف يموت في سجنه ... المهم عندما شعر بأن لا أحد يسأل عنه وبأنه ضاع بين مكر السياسة وإنشغال السلطة والخليفة في أمور ملكه أنشد قصيدته هذه
اضاعوني وأي فتى اضاعوا
ليوم كريهة وسـداد ثغـر
وصبر عند معترك المنايـا
وقد شرعت اسنتها بنحري
اجرر في الجوامع كل يـوم
فيا لله مظلمتـي وصبـري
كأني لم اكن فيهم وسيطـا
ولم تك نسبتي في آل عمرو
والآن نريد أن نعرف حكاية سجنه والجريمة التي جعلته يدفع حياته ثمناً لها
يبدوا أنه كان بين العرجي و هشام بن محمد المخزومي حقداً وضغينة أو فلنقل كان بينهما تضارب ومناكفات سياسية
لربما كان العرجي يميل لقسم من أصحاب النفوذ وكان محمد بن هشام يميل الى قسم أخر ... على كل الأحوال هذه الأمور الغير مكشوفة لعامة الناس في ذلك الوقت جعلت العرجي يتشبب بأم هشام وزوجته بالشعر ليس لأنه يحبهما ولأن حسنهما أخذا منه كل مأخذ وإنما هو من أجل المساس بمكانة هشام بن محمد المخزومي وتصغير خده وتقليل وجاهته بالتشبب بعرضه وشرفه ... ولينال منه شخصياً بهذا التشبب ... ومما قال العرجي في جيداء ام هشام بن محمد
عوجي علينا ربـة الهـودج
انـك ان لا تفعلـي تحرجـي
انـي اتيحـت لـي يمانيـة
احدى بنات الحارث من مذحج
نلبـث حـولا كامـلا كـلـهما
نلتقـي إلا علـى منهـج
ومما قاله في زوجة هشام جبرة
عوجي علي فسلمي جبـر
فيم الوقوف وانتـم سفـر
ما نلتقي إلا ثـلاث منـى
حتى يفرق بيننـا النفـر
الحول بعد الحـول يتبعـهما
الدهر إلا الحول والشهر
لم يكن بإستطاعة هشام بن محمد أن يصنع شيئاً في ذلك الوقت لأنه لا يملك السلطة .. ولكن مع مرور الأيام أصبح هشام بن عبد الملك خليفة المسلمين وليصبح هشام بن محمد المخزومي خال الخليفة هشام !!! وقام الخليفة بتعيين خاله هشام المخزومي والياً على مكة وأصبح العرجي ضمن منطقة هشام المخزومي ويخضع لنفوذه وسلطانه ... ويحكى أن هشام قام بتلفيق تهمة مدبرة أودت بالعرجي الى السجن وجعلت التعذيب والإهانة توأماه ... ويقال أن العرجي كان كثير الاخطاء وقد أستطاع هشام أن يقف على أخطائه ويستغلها ليخرج ما بداخله من حقد وكره دفين ....
وطرائف العرجي في سجنه عديدة، ومحفوظة لمن شاء ان يطلع عليها كاملة في كتاب الاغاني، ومنها انه جلد ذات يوم مع الحصين بن غرير وصب على رأسيهما الزيت ثم اوقفا في الشمس جريا على عوائد التعذيب وتقاليده في ذلك الزمان، وبدلا من التأسي لذلك الوضع المذل في شمس تحرق الرؤوس من دون زيت وقف العرجي وجاره يتنادمان، ويضحكان، ويتناشدان الاشعار ويسخران من السجانين والجلادين.
وان حسبت هذا الموقف في خانة التحدي للسلطة وادوات تعذيبها وقارنته بناظم حكمت الذي ملأ الدنيا بالغناء في ليالي تعذيبه واهاناته ونصح جميع الشعراء ان يغنوا في لحظات الشدة كي لا يستلذ الجلاد المستبد بانتصاره، فماذا تقول عن قصص اخرى مشابهة ليس فيها من تحدي السلطات شيء، فقد قيل ايضا ان العرجي وصاحبه حين اوقفا في يوم آخر ذلك الموقف المزري وبزيت جديد مر بهما صبيان يلتقطون النوى ووقفوا ينظرون اليهما فقال ابن غرير للعرجي ما اعرف في الدنيا شيخين اشأم مني ومنك، ان هؤلاء الصبيان مطالبون بكمية من النوى يجمعونها كل يوم، وقد تركوا لقط النوى ووقفوا يتفرجون علينا وآخر النهار ينصرفون بغير شيء، فيضربون، فيكون شؤمنا قد لحقهم.
وفي يوم ثالث من ايام الجلد بالسياط والوقوف في الشمس بالزيت المغلي تحلقت جماعة من الناس حول الضحيتين وكان فيها احد معارف العرجي الذي اراد ان يتأفف عليه ويتحسر على حاله وكان يفأفئ بالكلام فلما اراد ان يعزي الشاعر تلجلج وفأفأ فقال العرجي:
لا خرجت من فيك ابدا.. وجميع هذه الحكايات تشير الى سجين عادي يمزح ويضحك، ويظن ان زمن الافراج عنه لن يطول وانه سيصبح حرا بمجرد ان يتحرك الذين يمسكون بالخيوط ويحددون ازدواجية المعايير وطرق تطبيقها. ولكنه كان على خطأ وكانت تقديراته في غير محلها فشعر بالإزعاج بعد مرور السنين فصرح بالضياع وقال قصيدته... وقد مات في سجنه دون أن يتوسط له أحد أو قد عجزوا عن فك أسره وغريمه القاضي الحاقد عليه
والزمن دوار وبعد فترة من موت العرجي ولحقه الخليفة هشام بن عبد الملك الذي سكت عن مظلمته اكراما لخاله، فلما تولى الخلافة الوليد بن يزيد وكان شاعرا أمر بالقبض على محمد بن هشام وأخيه ابراهيم وجسد العرجي ما يزال طريا في قبره ـ بلغة أبي الفرج ـ فعذبهما وجلدهما انتقاما للشاعر، ثم ارسل بهما الى يوسف بن عمر في الكوفة، حيث خبراء التعذيب في الماضي والحاضر، وأمره ألا يكف عن تعذيبهما حتى يتلفا..
ولا حاجة لتوصي ولاة الكوفة بتعذيب مغضوب فقد ضرب يوسف بن عمر محمد بن هشام الى ان لم يبق فيه موضع للضرب، فكان الزبانية اذا ارادوا ان يقيموه اخذوا بلحيته فجذبوه منها الى أن تنتفت مزقا....
وقد تردد هذا البيت الشعري على ألسن عامة الناس وأصبح ذا معاني وشجون
ويحكى أنه كان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب وكان يغني على شرابه بيت العرجي
( اضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ) قال فأخذه العسس ليلة وحبسه ففقد أبو حنيفة صوته واستوحش له فقال لأهله ما فعل جارنا الكيال ؟ قالوا أخذه العسس وهوفي الحبس فلما أصبح أبو حنيفة توجه إلى عيسى بن موسى فاستأذن عليه فأسرع إذنه وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي أبواب الملوك فأقبل عليه عيسى بن موسى وسأله عما جاء بسببه فقال أصلح الله الأمير إن لي جارا من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا فوقع في حبسه فأمر عيسى بن موسى بإطلاق كل من في الحبس إكراما لأبي حنيفة فأقبل الكيال على أبي حنيفة يتشكر له فلما رآه أبو حنيفة قال له هل أضعناك يا فتى يعرض له بشعره الذي ينشده ؟ قال لا والله ولكنك بررت وحفظت