قال تعالى: (( وقضى ربك ألا تعبدو إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي إرحمهما كما ربياني صغيرا )) سورة الاسراء
قال تعالى: (ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة )سورة الروم .
فشكرك والديك هو برهما والإحسان إليهما والقيام على خدمتهما وأن تجثو على الركب تحت أقدامهما كالعبد الذليل بين يدي مولاه؛ لأن هذا من مقامات النبوة ومن أخلاق الأنبياء، فهذا نبي الله نوح يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[نوح:28].
وهذا نبي الله إبراهيم الذي علم البشرية كلّها معنى البر، انظر كيف يتحبّب إلى والده بأحب كلمة له كلمة يا أبي، والله الذي لا إله غيره منّا من يتمنى أن يسمع هذه الكلمة ولو لو مرة واحدة، نداء غالٍ له قيمة روحية عالية، انظر مع أن أباه على الكفر يصنع الأصنام ويبيعها ويروّج لها في الأسواق، ومع ذلك انظر إلى هذا النداء الرقيق الرقراق الذي يلين القلوب القاسية: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا[مريم:41-45]
إن من أعظم الروابط بين الناس رابطة خصّها الشرع الحنيف بمزيد من الاهتمام والذكر بل لقد جعلها من فرائض الدين الكبرى فأمر بوصلها والإحسان إليها والقيام بحقها ورتب عليها أعظم الأجر وأزكاه. وفي المقابل حذر من المساس بهذه الرابطة الوثيقة والإخلال بها والاعتداء عليها حتى ولو بأدنى لفظ أو نظر ، تلكم الرابطة هي ما يجمع كلاً منا بأصله الذي جعله الله تعالى سبباً لوجوده، رابطة الوالدين حيث إن شأنهما عظيم وحقهما كبير ولست في مقامي هذا أعلم جاهلاً بحقهما فالكل يعلم هذا الحق، ولكني أذكر نفسي أولاً وأذكركم ثانياً بهذا الحق العظيم الذي قرنه الله بحقه سبحانه في أكثر من آية في كتابه قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (23) سورة الإسراء
فقضى ربنا عز وجل علينا قضاء دينيا وأمرا شرعيا أن نوحده سبحانه بأن نفرده بالعبادة لكونه المعبود المستحق لها دون سواه قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (62) سورة الحـج
ثم ذكر جل ذكره بعد حقه العظيم القيام بحق الوالدين فقال وبالوالدين إحسانا ، ليدلنا سبحانه على عظم حق الوالدين ، وهذا في القرآن كثير ومنه يقول عز وجل {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } (151) سورة الأنعام
والإحسان بالوالدين يعم كل إحسان قولي أو فعلي مما هو إحسان إليهما ، قال ابن كثير رحمه الله: فلا تقل لهما أف أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ولا تنهرهما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح .
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: وقل لهما قولاً كريماً أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم واخفض لهما جناح الذل والرحمة أي تواضع لهما بفعلك وعن عروة قال " لا تمتنع من شيء أحباه" وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً أي في كبرهما وعند وفاتهما".
أيها المسلمون: إن بر الوالدين يعتبر من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي – -: أي العمل أحب إلى الله، وفي رواية: أي العمل افضل، قال: ((الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).
ومن عظم حق الأب والأم أن جعل الله رضاه عن العبد برضاهما وغضب الرب على العبد بغضبهما عليه فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رضى الرب في رضى الوالد وسخط الرب في سخط الوالد "
وبر والوالدين – إخواني في الله - سبب لدخول الجنة والنجاة من النار فعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألك والدان قلت نعم قال الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما .رواه الطبراني بإسناد جيد ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ
واعلم أيها المسلم ، أنك مهما أحسنت لوالديك فلن تجزيهما حقهما فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ ، وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي بردة أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره ، قال يا بن عمر أترانى جزيتها قال لا ولا بزفرة واحدة ، أي مما يعرض للأم عند الوضع من الألم
واعلم ـ رحمك الله ـ أن بر الوالدين لا ينتهي بموتهما، فعن أبي أسيد الساعدي قال: فيما نحن عند رسول إذ جاءه رجل من بني سلِمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرّهما بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاةُ عليهما والاستغفارُ لهما وانفاذُ عهدهما من بعدهما وصلة الرحِم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)).
ألا فليتق الأبناء الله في الوالدين ، فإنهما سبب وجودك في الدنيا ، وسبب دخولك الجنة إن بررتهما ، فلا تترك برهما ما استطعت إلى ذلك سبيلا
الخطبة الثانية : أخي المسلم تأمّل ـ يا رعاك ربيّ ـ حالَ صغرك، تذكّر ضعفَ طفولتكَ، فقد حملتكَ أمكَ في بطنها تسعةَ أشهرٍ وهنًا على وهن، حملتكَ كَرهًا ووضعتك كَرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وعند الوضعِ رأت الموتَ بعينها،فحالها يقول " {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} زفراتٌ وأنين، غُصصٌ وآلام، ولولا رحمةُ الرحمن الرحيم لكانت حياتكَ سبباً في موتها ووجودُكَ سببا في فقدها ، وعندما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها واستنشقت ريحكَ وتحسست أنفاسك تتردّد نسيت آلامها وتناست أوجاعها، رأتكَ فعلّقت فيك آمالها ورأت فيك بهجةَ الحياة وزينتها، ثم انصرفت إلى خدمتك ليلها ونهارها، تطعمك من خالص جسدها لبنا خالصا بسببه جسدها يضعف وبه يقوى جسدك ويشرُفُ ، تجوع هي لتشبع أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، ، تحسبُ الخير كلَّه عندها، وتظنّ الشرّ لا يصل إليك إذا ضمّتك إلى صدرها أو لاحظتك بعينها، تؤثرك على نفسها بالغذاء والراحَة، فلما تم فصالك في عامين وبدأت بالمشي، أخذت تحيطك بعنايتها وتتبعك نظراتها وتسعى وراءك خوفًا عليك، صورتكَ أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، صوتكَ أبدى على مسمعها من تغريد البلابل وغناء الأطيار، ريحكَ أروعُ عندها من الأطياب والأزهار، سعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، يرخصُ عندها كلُّ شيء في سبيل راحتك، ترخصُ عندها نفسُها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.
إن من العيب والعار ، أن يتفاجئ الوالدان بالتنكر للجميل ، إذ كانا يتطلعان للإحسان ويؤملان الصلة والمعروف ، فإذا بهذا العاق المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته وأعجب بشبابه وقوته ، غره تعليمه وثقافته وماله ومركزه ، فيؤذيهما بالقول والفعل ، يريدان حياته ويتمنى موتهما ، وكأني بهما أن لو كانا عقيمين .
أيها العاق اعلم أن الجزاء من جنس العمل ، قال صلى الله عليه وسلم "ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له من البغى وقطيعة الرحم " ، وقال صلى الله عليه وسلم " كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لوالديه قبل الممات "
واعلم أيها المسلم أن دعوة الوالدين على ولدهما مجابة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن ، دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالدين على ولدهما "
أيها المسلمون: إن بعض الناس يسمع لزوجته، ويلبي مطالبها ويسعى لمرضاتها، وهذا حسن، ولكنه يسيء إلى أمه، فيهملها ولا يسأل عنها، ولا يجلس معها، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده فيغضب عليها ويتمنى فراقها، وهذا من أعظم العقوق والعياذ بالله، بل الواجب أن يسعى الإنسان إلى إرضاء والدته ولو غضب كل الناس، عليك أيها المسلم أن تمنع أولادك من أذية أمك بقول أو فعل، وألا تقبل بحال من الأحوال شكوى زوجتك نحو أمك، بل عليك بحض زوجتك على احترام أمك والصبر على ما قد يصدر منها، فإن في ذلك خيرا كثيرا وبرا وفيرا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى البر بوالدينا والإحسان بهم