من عجائب خلق الإنسان تركيبة أعضائه، ووظيفة كل عضو من أعضاء الجسم، هذا الإنسان المعقّد الخلق، نزلت الشرائع الإلهية لتهديه كيف ينتفع بما وهبه الله له دون أن ينحرف عن الصراط المستقيم.
ومن أعجب أعضاء الإنسان اللسان، ذاك هو حاسة الذوق، والآلة التي يعبّر بها عن أحاسيسه وأفكاره، فباللسان يتصل الإنسان بالله وبالآخرين، وما الكتابة إلا ضرب من التعبير اللساني، بواسطة الرموز، يحيلها القارئ إلى كلمات، وإذا كانت العين تدرك المبصرات وتتأثر بها، والأذن تدرك الأصوات وتتأثر بها، فإن اللسان يعبّر عن الأحاسيس كلها، ويتجاوزها إلى جميع الموجودات، وإلى المعلومات المجردة فيثبت وينفي ويصل ويقطع ويشرح ويوضح ويبيّن، ولذا كان اللسان خصيصة الإنسان؛ قال الله تعالى "الرحمان علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان" "الرحمان آية 1- 4".
لما كان اللسان واسع النفوذ وسلطانه كبير كان نفعه كبيرا أيضا، وكان ضرره كبيرا، وكان العلماء والصالحون من الأمة الإسلامية يخشون عاقبة اللسان ويفزعون من الموارد المهلكة التي توردهم فيها ألسنتهم. روى الإمام مالك أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق فوجده يجبذ لسانه، فقال له عمر: "مه" أي اكفف. غفر الله لك. فقال أبو بكر: "هذا أوردني الموارد" أي التي يخشى عاقبتها. فهذا صاحب رسول الله وخليفته وصهره وأقرب الناس إليه هذا حاله مع لسانه، وخوفه من جرائره، فكيف نقول نحن في ألسنتنا وما تجرّه علينا؟ وما هو حالنا من عواقب اللسان؟ إن القرآن والسنة تكفلا بتأديب المؤمنين.
علّم الله الإنسان أن اللسان سلاح ذو حدين؛ فاللسان يسعد الإنسان إذا ما تأدّب بالأدب الإلهي؛ يقول الله تعالى "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون" "إبراهيم آيتان 24- 25". الكلمة الطيبة الصالحة هي الكلمة التي تصدر من قلب عامر بالحق، محب للبشر خاضع لله، هي الكلمة التي يزنها صاحبها فينقيها من كل غش وخداع ومن كل كذب ودجل، ومن كل تعدّ على الآخرين، يرسلها في الكون يبغي بها صلاحا وينشر بها حقا، هي كلمة المرسلين، وكلمة العالم النزيه، والوالد والمربي والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
الكلمة الطيبة لا تموت بخروجها من فم صاحبها، بل هي حية باقية نامية، هي كالشجرة المباركة، التي احضنتها يد العناية الإلهية، فإذا هي راسخة الأصل، ثابتة غير متقلقلة، ممتدة الفروع. وهكذا تبارك يد العناية الإلهية الكلمة الصالحة، فإذا بصاحبها ينعم بآثارها في حياته وبعد موته، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
وبالعكس، فالكلمة الخبيثة تنقلب وبالا وشرا على صاحبها، تهلكه وترديه. روى مالك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال "إن الرجل ليتكلّم بالكلمة ما يلقي لها بالا، يرفعه الله بها في الجنة" وروي عن بلال بن الحاث أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة".
وإنه مما يجب على المؤمن أن يعلمه ويحذره أن مقام الجلالة وكتب الله ومقام رسل الله قد أوجب الله تعظيم ذلك في كل الظروف والأحوال. ولا يجوز العبث والاستهزاء وإضحاك الغير بتناول آيات الله وبينات كتابه، وهؤلاء الذين يتطاولون على المقدسات، وجدوا في القديم والحديث، وأنزل الله قوله فيهم: "وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا" "النساء آية 140"، فهم كفرة أو منافقون ومقاطعتهم واجبة، والجالس معهم الساكت على ضلالهم شريك لهم كما يوعد القرآن المتكبّرين والطغاة والمفسدين الذين أوتوا قوّة في البيان، ومقدرة على استمالة الناس، ويعبثون بآيات الله بهذا الوعيد الذي قضاه في عدله أن يكون منه جنس فسادهم هو إهانتهم، قال تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين" "لقمان آية 6"..
إن حياة المسلم يجب أن تكون حياة جد واستقامة، وكل لحظة من لحظات حياته هو مسؤول عنها. ففي الحديث الصحيح "إنه لن تزول قدم ابن آدم حتى يسأل، ومن جملة ما يسأل عنه عن عمره فيم أفناه" فتوبوا إلى ربكم يا معشر المسلمين واحفظوا ألسنتكم، وزنوها بميزان الله، ولا تتركوا منفذا يثير العداوة، أو يفرّق الشمل "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" "فصلت آيتان 33- 34".
إن اللسان سلاح ذو حدين فطيبوه، فالبيت بحاجة إلى الكلمة الطيبة، وكذلك المدرسة والشارع واماكن العبادة، فهل يستحق صاحب الكلمة الخبيثة أن يجازى بالمعروف وأفعاله منكرة؟ إن حماية المجتمع من الكلمة الخبيثة فرض وواجب، لأن في حمايته إرضاء لله، وبإرضاء الله تعالى تتوفر الطمأنينة في النفس، والسلامة في الجسم وبفضلهما تتحقق السعادة داخل الأسرة وفي المدرسة وفي الشارع وفي الوطن بسعته.
الصيف حل والمعاهد أغلقت أبوابها والعمل خف، ولكن مسؤولية رعاية الأبناء ثقلت، فحذار مما يحدث في أوقات الفراغ، فعمّروها بما ينفع ولا يضرّ، يفرح ولا يحزن، قولا وفعلا، وكل انسان مسؤول عن أقواله وأفعاله والله الهادي إلى طيب القول، وطيّب الفعل.