إن الله سبحانه هو وحده خلق، وهو وحده الذي رزق، وأوسع في الرزق، وأفضل في العطاء، وهو وحده الذي يحيي وهو وحده الذي يميت، هو سبحانه مالك الملك له الخلق وله الأمر، أفمن يخلق كمن لا يخلق؟!.. جَلَّتْ حكمتُه وعَظُمَتْ قدرتُه، علينا تتلى آياته وفينا تتنزل بركاته، ظاهرةً حججه، قاطعةً براهينه، ومن أصدق من الله قيلا، بعث برسالاته المرسلين، وأنبأ بوحيه النبيين، شرع لنا ووصانا نحن المسلمين اللاحقين بما وصى به من قبلنا من المؤمنين السابقين، لنقيم الدين ولا نتفرق فيه، قال جل جلاله: "لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ" "الشورى:12- 13".
فمن الدين أن الله سبحانه جعل الكعبة له بيتاً أولا: فأذن بالحج إبراهيم عليه السلام، وحج أبناء إبراهيم عليه السلام من بعده ومنهم موسى وعيسى ومحمدٌ صلى الله عليه وعليهم وسلم تسليما كثيرا، فأم الناس طائفين متبتلين بالبيت الحرام، فكان مثابةً لهم وأمنا، جزا الله بالخير خيراً من عمره وعظمه، "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
ومن الدين أنه قد كان المسجد الأقصى بيتاً لله ثانيا بناه سليمان عليه السلام:
روى ذلك الإمام البخاري ومسلم والنسائي وأحمد: "حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟! قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟!. قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟! قَالَ: "أَرْبَعُونَ". ثُمَّ قَالَ: "حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ".
ومن الدين أيضاً المسجد الثالث في المكانة مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فهذه المساجد الثلاثة جاء الترغيب في عمارتها بالعبادة والصلاة، بل وشد الرحال إليها، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد: "حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ: سَمِعْتُ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي قَالَ: "لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَّا مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ ؛بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي".
وفي رواية للإمام أحمد قال: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ قَزَعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ِنَّمَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ وَمَسْجِدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ".
وأجر الصلاة في هذه المساجد الثلاثة أو في أحدها أعظم من أجر الصلاة في أيِّ مسجد غيرها، ففي الحديث في المسند قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ".
وذكر نحوه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده وقال الإمام البيهقي في سننه: "وروينا في حديث أبي الدرداء وجابر مرفوعا: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة""، بل جعل الله عز وجل عمارة مساجده علامة على الإيمان والتقوى والاهتداء، فقال تعالى: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ" "التوبة: 18".
فلنعمر المسجد الأقصى، ولا نخش إلا الله، لأن الأصل هنا في هذه المسألة أمران: أحدهما، أن المساجد الثلاثة تستوي في مشروعية شد الرحال للعمارة والتقديس فيها، سواءً برفع البناء، أو بالعبادة والدعاء والزيارة. والأمر الثاني: إنه لا فرق بين المسلمين في مشروعية زيارة المسجد الأقصى، ومن يخالف فعليه الدليل على المخالفة، أما كوننا نحن أهل فلسطين تحت الاحتلال ونزور المسجد فهذا أدعى لأن يقوم إخواننا المسلمون في العالم لمؤازرتنا ونصرتنا، فهو نوعٌ من الجهاد.
ومن هنا فإنني أدعو أهل المسؤولية والفقه والعلم في العالم الإسلامي إلى النظر والاجتهاد والفتوى في مسألة المنع من زيارة بيت المقدس بدعوى وقوع المسجد الأقصى تحت الاحتلال والأسر الصهيوني، وأقول: ألم يكن البيت الحرام تحت سيطرة أهل العدوان من كفار قريش؟!.. ومع ذلك فقد كان المسلمون وهم في مكة قبل الهجرة يذهبون إليه ويصلون فيه ويعظمونه، وكذلك بعد الهجرة إلى المدينة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ليؤدوا العمرة، كما هو معلوم في سورة الفتح، ومعلوم أنهم كانوا لا يستطيعون الدخول إلا بإذنٍ من هؤلاء الأعداء، ولم يمنعهم ذلك من زيارته.
فيا أهل الإسلام، فلنجدد بالله وبرسوله- عليه الصلاة والسلام- إيماننا، ولنصلح بالكتاب والسنة أعمالنا، فمن أحسن فله حسن الثواب إحساناً ورضوانا، ومن أساء فعليه من الإساءة ما يكفيه ذلاً وخسرانا، ما أحرانا أن نلزم طريق الأولين الناجين من أوضار المعاصي والذنوب، وأن نجتهد ونجهد أنفسنا في النصح والتذكير لإخواننا المفتونين ليَصْبِرُوا أنفسهم على سبيل المؤمنين.. فإياكم والبدعة والتفرق في الدين، وإياكم وأصحاب المثالب والعيوب الذين يبهتون الأولين السابقين، ممن يلعنون السلف من الصحب الصالحين والخلف المهتدين..