لأن رمضان تصفد فيه مردة الشياطين فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، وفي رمضان تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما أعظمها من بشارة، لو تأملناها بوعي وإدراك لوجدتنا مسارعين إلى الخيرات، متنافسين في القربات، هاجرين للموبقات، تاركين للشهوات.
ورمضان فرصة للتغيير، لما حصل فيه من الأحداث التي غيرت مسار التاريخ، وقلبت ظهر المجن، فنقلت الأمة من مواقع الغبراء، إلى مواكب الجوزاء، ورفعتها من مؤخرة الركب، لتكون في محل الصدارة والريادة ففي معركة بدر الكبرى التقى جيشان عظيمان، جيش محمد صلى الله عليه وسلم، وجيش الكفر بقيادة أبي جهل في السنة الثانية من الهجرة وذلك في اليوم السابع عشر من رمضان، وانتصر فيها جيش الإيمان على جيش الطغيان، ومن تلك المعركة بدأ نجم الإسلام في صعود، ونجم الكفر في أفول، وأصبحت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، يقول الله تعالى:"وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" "آل عمران:123"..
وفي السنة الثامنة، وفي شهر رمضان، كان الفتح العظيم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجا.
وفي سنة ستمائة وثمانيةً وخمسين، فعل التتار بأهل الشام مقتلة عظيمة، وتشرد من المسلمين من تشرد، وخربت الديار، فقام الملك المظفر قطز بتجهيز الجيوش لقتال التتار، حتى حان اللقاء في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وأمر ألا يقاتلوا حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو الخطباء والناس في صلاتهم، ثم تقابل الصفان واقتتل الجيشان، وحصلت معركة عظيمة سالت فيها دماء وتقطعت أشلاء، ثم صارت الدائرة على القوم الكافرين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.
كل هذه الأسباب جعلتنا نوقن بأن رمضان فرصة سانحة وغنيمة جاهزة، لمن أراد التغيير في حياته. فالأسباب مهيأة، والأبواب مشرعة وما بقي إلا العزيمة الصادقة والصحبة الصالحة والاستعانة بالله في أن يوفقك للخير والهداية.
رمضانُ أقبل قم بنا يا صاح
هذا أوان تبتل وصـــلاح
واغنم ثواب صيامه وقيامه
تسعد بخير دائم وفلاح.
فرمضان فرصة للتغيير.. ليصبح العبد من المتقين الأخيار ومن الصالحين الأبرار. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" "البقرة:183" فقوله "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" تعليل لفرضية الصيام؛ ببيان فائدته الكبرى وحكمته العظمى وهي تقوى الله والتي سأل أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه الصحابي الجليل؛ أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن معنى التقوى ومفهومها؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى.. قال: فما صنعت؟ قال: شمرتُ واجتهدت.. أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه، قال أبي: فذلك التقوى.
إذن فالتقوى: حساسيةٌ في الضمير وشفافيةٌ في الشعور وخشيةٌ مستمرة وحذرٌ دائم، وتوق لأشواكِ الطريق؛ طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ الرغائبِ والشهوات، وأشواكُ المخاوفِ والهواجس، وأشواكُ الفتنِ والموبقات، وأشواكُ الرجاءِ الكاذب فيمن لا يملكُ إجابةَ الرجاء، وأشواكُ الخوف الكاذب ممن لا يملكُ نفعاً ولا ضراً، وعشراتٌ غيرُها من الأشواك..
هذا هو مفهوم التقوى.. فإذا لم تتضح لك بعد.. فاسمع إلى علي رضي الله عنه وهو يعبر عن التقوى بقوله: هي الخوفُ من الجليل والعملُ بالتنزيل والقناعةُ بالقليل والاستعدادُ ليوم الرحيل. هذه حقيقة التقوى، وهذا مفهومها. فأين نحن من هذه المعاني المشرقة المضيئة؟..
لقد كان المجتمعُ الإسلاميُ الأول مضربَ المثل في نزاهتهِ وعظمةِ أخلاقه، وتسابقِ أفرادهِ إلى مرضاةِ ربهمِ جل جلاله وتقدست أسماؤه، وكانت التقوى سمةً بارزة في محيا ذلكِ الجيلِ العظيم الذي سادَ الدنيا بشجاعتهِ وجهاده، وسارت بأخلاقهِ وفضائلهِ الركبان مشرقاً ومغرباً، فقد كان إمام المتقين عليه الصلاة والسلام قمةً في تقواه وورعهِ، وشدةِ خوفهِ من ربهِ العظيمِ الجليل، فكان يقومُ الليل يصلي ويتهجد حتى تفطرتْ قدماه الشريفتان، وكان يُسمعُ لصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجل من النشيجِ والبكاء، وهو الذي غُفر له ذنبه ما تقدم وما تأخر.
وأما صاحبهُ المبجل، وخليفته العظيم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان يقول: يا ليتني كنت شجرةً تعضدُ ثم تؤكل!! وكان له خادمٌ يأتيه بالطعام، وكان من عادةِ الصديق أن يسأله في كل مرة عن مصدرِ الطعام؛ تحرزاً من الحرام، فجاءه خادمُه مرةً بطعامه، فنسي أن يسألَه كعادته فلما أكلَ منه لقمة قال له خادمُ: لمَ لم تسألني - يا خليفةَ رسولِ الله- كسؤالكِ في كلِ مرة؟ قال أبو بكر: فمن أين الطعامُ يا غلام؟ قال: دفعه إليَّ أناسٌ كنتُ أحسنتُ إليهم في الجاهلية بكهانةٍ صنعتُها لهم، وهنا ارتعدتْ فرائصُ الصديق، وأدخلَ يده في فمه وقاء كلَّ ما في بطنهِ وقال: واللهِ لو لم تخرجْ تلك اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها. كل ذلك من شدةِ خوفه وتقواه وتورعهِ عن الحرام.
وأما خوفُ عمر رضي الله عنه وشدةِ تقواه فعجبٌ من العجب، سمع قارئاً يقرأُ قولَه تعالى: "يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً" "الطور:13" فمرض ثلاثاً يعـودهُ الناس. بل إنه قرأ مرةً قولَه تعالى: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ" "الصافات:24" فمرض شهراً يعودُه الناسُ مريضاً.
وأما عليٌ رضي الله عنه فكان يقبض لحيته في ظلمة الليل ويقول: يا دنيا غُري غيري أليَّ تزينتِ أم إليَّ تشوقتِ؟ طلقتك ثلاثاً لا رجعةَ فيهن، زادُك قليل وعمرُك قصير. وخرج ابن مسعود مرة في جماعة فقال لهم ألكم حاجة؟! قالوا: لا؛ ولكن حبُ المسيرِ معك!! قال: اذهبوا فإنه ذلّ للتابع وفتنةٌ للمتبوع.
دعنا من الخلفاء الراشدين المكرمين، ولنتجاوز الزمن سنين عدداً، فهاهو هارون الرشيد الخليفةُ العباسيُ العظيم الذي أذلَّ القياصرة وكسرَ الأكاسرة والذي بلغت مملكته أقاصي البلاد شرقاً وغرباً يخرج يوما في موكبهِ وأبهته فيقول له يهودي: يا أمير المؤمنين: اتق الله!! فينزل هارونُ من مركبه ويسجدُ على الأرض للهِ ربِ العالمين في تواضعٍ وخشوع، ثم يأمرُ باليهودي ويقضي له حاجته، فلما قيل له في ذلك!! قال: لما سمعت مقولتَه تذكرتُ قولَه تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" "البقرة:206" فخشيت أن أكون ذلك الرجل، وكم من الناس اليوم من إذا قيل له اتق الله احمرتْ عيناه، وانتفختْ أوداجه غضباً وغروراً بشأنه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بالمرء إثماً أن يقال له: اتق الله فيقول:عليك نفسَك!! مثلكُ ينصحني!!
إذن فيوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى، جمعهم اللهُ بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد ومُصرت لهم الأمصار كل ذلك تحقيقا لموعودِ الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" "الأعراف:96".
فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى؛ ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ" "القمر:54- 55".
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
تجرد عريانا وإن كان كاسيا
وخير خصال المرء طـاعة ربه
ولا خير فيمن كان لله عاصيا.