رمضان فرصة ومحطّة لتجديد العهد مع الله وتزكية النفس وتطعيم الروح وتشكيل رصيد إيماني يمدّ المسلم بالطاقة بعد انقضاء شهر الصيام، ليواصل السير في طريق الطاعة والاستقامة ويتخطّى عراقيله وعقابيله.. هذا ما فهمه وجرّبه كلّ مؤمن يعي مقاصد الصيام ويفقه أسراره وأبعاده، ومن أكبر الغبن أن يحلّ رمضان ويرتحل من غير أن يستفيد منه بعض المسلمين سوى ما عانوه من جوع وعطش.
ولعلّ من أحسن الوسائل التي تشحذ الهمّة وتقطع أوداج التسويف أن يتفكّر الصائم في احتمال أن يكون هذا آخر رمضان يعيشه، فقد يأتي الشهر في العام المقبل وهو تحت أطباق الثرى قد أفضى إلى ربّه ينتظر الحساب ولا يمكنه العمل، فمن شأن هذا الفكر أن يجعله يسرع الخطى ويضاعف العمل ويتحمّل المشاقّ، ويسوقه إلى التّعامل الحيّ مع رمضان وخصائصه الكبرى ومقاصده العظمى ولباب اللباب فيه.
• تربية روحية: إنّ أوّل منازل الصائمين هو التربية الروحيّة الجادّة لتهذيب النفس وتخليصها من رعوناتها والتغلّب على حظوظها وتنقيتها من الأخلاق السيّئة ليستعلي في المسلم جانبه الإنسانيّ النّبيل ويتراجع فيه الجانب الحيواني الذي هو مصدر الشرّ والعدوانيّة والغريزة، فيرجع الإنسان بذلك إلى أصله ويتربّع على عرش الخيريّة: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"- "التين 4".
فالصيام لمن فقه معانيه وأدرك مقاصده تصحيح للمسار بشحذ الفعاليّة الروحيّة التي تجعل أشواق المسلم متعلّقةً بإرضاء ربّه وترجمة تديّنه في شكل فعل الخير وخدمة النّاس والوصول بالتّجربة الذاتيّة إلى إحداث التوازن بين الترف والتقشّف لتصطبغ حياته بهذا التوازن في مداها كلّه، وهذه صورة للانعتاق من التناقض المفزع المتمثّل في الإحجام عن الطعام بعد الفجر والإسراف فيه بعد المغرب.
• إرادة وصبر: ويعرف كلّ دارس للشريعة بوعي وبصيرة أن مقاصد العبادات ليست أخرويّة بحتة- والآخرة أكبر غاية وهي خير وأبقى- إنّما تشمل حياة الفرد والجماعة باعتبارها مزرعة للآخرة، وللصيام مثل هذه المقاصد والمنافع الّتي تصيب المسلمين بالخير والنماء، وأذكر هنا خصلتين يبرزهما الصيام بوضوح ويغتنم المسلم فرصة رمضان لتنميتهما واستثمارهما كعنصرين أساسيّين لاستكمال بناء الشخصيّة وتقويتها، وهما الإرادة والصّبر.
أمّا الإرادة فهي تلك العزيمة التي تدفع الإنسان إلى الإنجاز رغم صعوبة المرتقى، ولا توجد أمّة تمتنع طواعيّةً عن تلبية نداء غريزة التغذية والجنس والملذات طوال النّهار لمدّة شهر كامل سوى المسلمين، فكيف لو وظّفوا هذه الإرادة في مجالات حياتهم كلّها؟ إذن لحقّقوا معجزات كما حدث في العصور الأولى للإسلام، وليس شيء أقدر على تقوية الإرادة من الوازع الدينيّ الّذي يحرّك المؤمنين رغباً ورهباً فيقتحمون العقبات ويحقّقون ما يحسبه غيرهم خوارق حقيقيّة.
أمّا الصبر فهو وقود الحياة الدينيّة والدنيويّة، ولولاه لما تحمّل الصائمون ظمأ الهواجر وعضّة الجوع ولدغة الحرمان، ويجدر بنا نقله إلى ميدان التحصيل العلميّ والبحث في المخابر والسيّر في مناكب الأرض والدّعوة إلى الله لتحويل المعاني الإيمانيّة إلى حقائق مجسّدة على مستوى الآفاق والأنفس.
وما أحوجنا في هذه الأزمنة إلى جرعات قويّة من الصّبر بمعناه الإيجابي لصياغة المسلم من جديد ليكون إنسان العبوديّة لله والشهود الحضاري، والصّبر الإيجابيّ هو القدرة على تحمّل التّكاليف بلا تراجع ولجم مطالب النفس في المواطن التي تقتضي ذلك، فقد تجد من الشباب من يندفع نحو الموت بلا تردّد لأنّ المنيّة قضيّة لحظة، لكنّه لا يستطيع الإنكباب على قراءة كتاب فضلاً عن التّخصّص في فرع من المعرفة يحتاج إلى مدّة طويلة ومذاكرة وحفظ ومراجعة وامتحانات.
• تهذيب الغرائز: بواسطة الصيام يهذّب الإسلام الغرائز وينظّمها، فهو لا ينكرها ولا يعمل على تحطيمها، يهذّب الغريزة الرّوحيّة بالعقيدة والعبادة، والغريزة الجنسيّة وغريزة الشبع بالتنظيم الزمنيّ والكيفي، وعلينا نقل هذه الضوابط والتنظيمات إلى ميدان الحياة الفسيح لننال الأجر والثواب من جهة، ونساهم في ترشيد المسيرة البشريّة من جهة أخرى، لأنّنا نحن المسلمين وحدنا قادرون على تقديم الواجبات على الحقوق والتحرّر من أنواع المؤثّرات من أجل رسالتنا السماوية الخالدة.
• هذه بعض منافع رمضان، وغيرها كثير جدّا، فهو شهر جهاد وفتوحات، كما أنّه شهر توبة وبدء صفحة جديدة مع الله تعالى، يقتضي إلتزام الحلال والتنزّه عن الحرام حتّى يصبح ذلك طبيعة ملازمة للمسلم وللأمّة، وهو شهر فيه روحانية غريبة وسرّ إلهي لا يفكّه إلاّ من عاش مع القرآن والذكر والتراويح والدروس المسجدية تحفّه الملائكة وتغشاه الرحمة.